عادَ الربيعُ مُبتسماً، وأخذ يوزع هداياهُ الجميلةَ وألوانه كأبٍ حنونٍ يعودُ إلى أسرتهِ بعد غياب، فللأرضِ لونٌ أخضر، والسماءُ الزرقاءُ تزينها سحبٌ بيضاء متفرقة، وللأشجارِ ألوانُ الأزهارِ الزاهيةِ، والدفءُ للعصافير والفراشات الملونةِ، ولنا في قريتنا الجميلةِ الفرح والسرور. وما زاد فرحَنا وصولُ أسرةِ المهندسِ الزراعي أشرف يوم أمسِ فقد تمَّ تعيينه مديراً للمركز الزراعي في القريةِ، ومسكنه يجاور بيتنا.
قررنا أن نزورَ أسرةَ أشرف لنرحبَ بهم ونمدَّ لهم يدَ العونِ والمساعدةِ وأصرَ ولدي عامرُ على مرافقتنا فقد رأى بين أفرادِ الأسرةِ الجديدةِ ولداً يقاربه سناً.
استقبلنا أشرفُ وزوجتهُ وتعارفنا، وقطعَ عامرُ حديثنا أكثرَ من مرةٍ للسؤالِ عن ابنهم الذي رآه يجلسُ على كرسي أمام بيتهم مساء أمس. وبعد إلحاح ولدي ردَّ أشرفُ: تعني ولدي حسان... إنهُ... إنهُ نائم. فطلبت من عامر أن يعودَ وحين يستيقظُ حسانُ يمكنه المجيء. وعادَ عامرُ. بدت أم حسان حزينةً وقالت: أرجو أن تقنعَ عامر بعدمِ السؤالِ عن ولدي ثانيةً. إنه مُقعد ولا يمكنهُ اللعب ولا يريدُ أية صداقة.
فوجئتُ بما سمعتُ. نظرتُ إلى أشرف فأكدَ وقالَ: عُمرُ ولدِنا الوحيد حسان عشر سنين وأصيبَ بالشللِ بعد ولادتِه بأربعةِ أعوام. أكد لنا الأطباءُ أنه لن يمشي على رجليهِ ثانية، فحاولنا أن نبعدَ عنهُ الحزنَ والتأثرَ ونجحنا في البدايةِ، وفرحنا لوجودِ صديقٍ يزوره، يقضيان أوقاتهما معاً، لكن تبينَ لنا أن هذا الصديق يُؤذي مشاعرَ ولدنا بحديثِهِ الدائم عن الألعابِ التي كان يُحبها وحُرمَ مِنها بسببِ حالتِهِ. صديقٌ آخر زارَهُ وجعلهُ يشعرُ أن الناسَ يشفقون عليهِ، تأثرَ حسانُ وبكى كثيراً، ورفضَ أن يقابلَ أي صديقٍ منذُ ذلك اليوم فقررنا أن نؤمِّنَ لـهُ ما يعوضهُ عن صداقاتٍ جديدة. أحضرنا لـهُ جهاز كمبيوتر فأتقنَ العملَ عليهِ وتفوقَ على كثيرٍ مِمَن يكبرونهُ سناً في هذا المجالِ فهو يستطيعُ التعاملَ مع برامجهِ وإعدادِ برامجَ جديدةٍ. وهو يهوى الرسمَ ويُبدع لوحاتٍ جميلةً على الكمبيوتر وعلى ألواحٍ كرتونيةٍ. سألتهم زوجتي: وماذا عن دراستهِ؟
ردَّت أم حسان: نعلمهُ في بيتنا ويتقدم للامتحان نِهايةَ العامِ الدراسي في مدرسة خاصةٍ فينجح بتقديرٍ متميزٍ. إنه في الصفِ الخامس هذا العام، وحين يكبرُ سنحضرُ لتعليمهِ مدرسين مختصين.
قلتُ: إن أخطأ صديقٌ أو أكثر فهذا لا يعني أن الجميعَ مثلهم. أنا واثقٌ أن حسان سيحبُ ولدي عامر وهو في صفه، ثمَّ إنني معلمٌ في مدرسةِ القريةِ وسأهتم به.
قطعَ أشرفُ حديثي وقالَ: أرجوك لندعِ الأطفالِ وشأنهم.
قررتُ أن أتوقفَ الآن عن هذا الحديث، ولكن سأعودُ إليه في الوقتِ المناسبِ. حين انتهت الزيارةُ وَدَعَنَا أشرفُ وزوجتهُ وعُدنا إلى بيتنا فوَجَدنا عامرَ ينتظرُ وصُولنا. سألني: هل استيقظَ حسانُ؟
أجبتهُ: حسانُ مشلولٌ يا بنيَ ولا يستطيعُ اللعبَ، ثمَ إنه يمضي معظمَ وقتِهِ بينَ التعلمِ وجهازِ الكمبيوترِ وهوايةِ الرسمِ.
قالَ عامرُ: هذا رائعٌ! إنه يستطيعُ أن يعلّمني العملَ على الكمبيوتر وأنا مثلهُ أحبُ الرسمَ.
لم تلفتِ انتباهَ ولدي كلمةُ (مشلول) بل ما أثارَهُ أنَ حسان يجيدُ العملَ على الكمبيوتر فأعدتُ عليهِ: حسانُ مشلول.
ردَ عامرُ: سنكونُ صديقين، وسأصحبهُ لمشاهدةِ جمالِ قريتنا، وسأعرفهُ على أصدقائي. ابتسمتُ وقررتُ أن أعودَ إلى منزلِ أشرف والد حسان فلديَ ما أقولهُ لـه.
واستقبلني من جديد. استغربَ عودتي بهذه السرعةِ، وبعدَ أن أذِنَ لي دخلتُ وجلستُ وقلتُ لـه: أرجو أن تسمعني حتَّى أتمَ حديثي.
قالَ: تفضَّل.
تابعتُ: يستطيعُ حسانُ أن يقدِمَ خدمةً كبيرةً لأطفالِ القريةِ، سيعلمهم العملَ على الكمبيوتر فمعلوماتُنا عنهُ قليلةٌ جداً. أرجو أن يوافقَ وتوافقَ على ذلك. لقد وعدتُ ولدي أن أحضرَ لـهُ جهازَ كمبيوتر نهايةَ العامِ الدراسي، وكثيرون مثلي وعَدُوا أبناءَهم، إن شئتَ سأنظمُ حضورَ الأطفالِ وأرافقهُم ويعلمهم حسانُ في غرفتِهِ، وسأتعلمُ معهم.
فكرَ أبو حسان قليلاً ثمَّ قالَ: سأسألُ حسانَ رأيَهُ.
انتظرته قليلاً، وبعد لحظات عادَ باسماً وقالَ: يمكنكَ إحضارُ الأطفالِ من الغدِ. شكرتُه وعدتُ إلى بيتِنا سعيداً، وفي اليومِ التالي كان برفقتي عامر وثلاثة من أصدقائِهِ، ابتسمَ لنا حسانُ. إنها المرةُ الأولى التي أراهُ فيها. أحسستُ أنني أعرفُهُ منذُ زمنٍ بعيدٍ، تُشعُ ملامحُ الطيبةِ والبراءةِ والذكاءِ من عينيه. صافحناهُ وجَلسنا على الكراسي المنظمةِ قربهُ ثمَّ تعارفنا وجلسَ والدُهُ بجواري. أخذ يُحدثنا عن الكمبيوتر واستخدامِهِ وكيفيةِ تشغيلِهِ وإغلاقهِ ومعلوماتٍ كثيرةٍ مفيدةٍ، وكان حديثهُ يشيرُ إلى ذكاءٍ وثقةٍ كبيرةٍ بمعلوماتِهِ. انتهى الدرسُ الأولُ فشكرناه، وقبلَ انصرافِنا اقتربَ منهُ عامرُ وقالَ لـهُ: إنكَ معلمٌ رائعٌ ونحنُ بحاجةٍ ماسةٍ إليكَ.
عُدنا في اليومِ التالي في موعِدنا المحددِ لتلقي الدرسَ الثاني. قابَلَنَا أبو حسان والسعادةُ تغمرُ وجهَهُ. رحبَ بنا وقالَ: حسانُ ينتظركُم.
وفي غرفةِ حسان كان اللقاءُ أجمل هذه المرة فقد استقبَلَنا وكأنَهُ متشوقٌ للقائِنا، وكما في المرةِ الماضيةِ جلسنا نستمعُ ونستمتعُ بما يقدمهُ لنا من حديثٍ لطيفٍ عمَّا يعرفُ حولَ إعدادِ البرامجِ الحاسوبيةِ، وحينَ انتهى الدرسُ قالَ حسانُ مُودعاً: سأنتظركُم غداً، مع السلامةِ وانصرفنا.
عندَ المساءِ زارَني أبو حسان وحدثني عن تأثرِ ولدهِ بزيارتِنا لـهُ واعتبارِهِ مُعلماً لنا وشكرني على ذلك، فقلتُ لـه: لا نريد شكراً، يستطيعُ حسانُ أن يقدمَ خدمات كثيرةً فحالتُه لا يجبُ أن تبعدُه عنِ الناس.
قالَ أبو حسان باسِماً: يبدو أننا سنعيشُ صداقاتٍ أخرى لولدي حسان.
خلال زيارَتِنا الثالثة وبعدَ الدرس وصفَ عامرُ لحسان جمالَ قريتِنا، وَدَعَاهُ لمرافقتِهِ وأصدقائِهِ في نزهةٍ قريبةٍ، فالربيعُ الذي يمدُ بساطَ الزهرِ على ربوع قريتِنا يدعو الجميعَ للمشاهدةِ والتمتعِ وعرضَ عليه أن يصطحبُوا أدواتِ الرسم لِيأخُذوا من الطبيعةِ الخلابةِ لوحاتٍ ساحرةً. صمتَ حسانُ قليلاً، فتابعَ صديقهُ الآخر سعيد: إننا نُحبُكَ ونريدكَ صديقاً. نظرَ حسانُ إلى وجوهِ الجميعِ بما في ذلك وجه والدهِ أشرف الذي ابتسمَ لـهُ مشجعاً.
ثمَّ قالَ: سأرافقكم غداً. سعدنا كثيراً، وتبادلنا نظراتِ الإعجابِ بهذا القرار، ومع صباحِ اليوم التالي كانَ عامرُ يسيرُ وأمامهُ حسان على كرسيه، وإلى جوارِهِ الأصدقاء الثلاثة. رسموا لوحاتٍ جميلةً وعرضَ عليهم عامرُ أن يلعبوا لعبةَ (تكامل عناصرِ الطبيعةِ) وهي لعبةٌ علمتها لولدي عامر وتتمثلُ في أن يتكلم أحدهم بلسانِ عنصرٍ من عناصرِ البيئةِ والحياة (الشجرة... الماء... العصفور... الفلاح... العامل.. الزراعة... الصناعة... المدرسة... الكتاب... الهواء...) ويتحدثَ عن أهميتِهِ للعناصرِ الأخرى، وحينَ ينتهي يبدأ الذي يليه بحديثٍ عن عنصر آخر ثمَّ يتابع ثالث الحديث وهكذا... بطريقةٍ تمثيلية معبرةٍ جميلةٍ. وبعد انتهاءِ اللعبةِ بدا حسانُ سعيداً بصداقتهم اللطيفة وبهذه النزهة. وأثناءَ العودةِ مرّوا بجوار أطفال يلعبونَ كرةَ قدمٍ فنظرَ حسانُ إليهم وتنهدَ وقالَ: كم أحبُ لعبةَ كرةِ القدمِ ولكنني لا أستطيعُ ممارسَتها. فأوقفَ عامرُ سيرَ كرسي حسان، ووقفَ أمامَهُ وقال: نحنُ نحبُ كرة القدمِ أيضاً ونمارسُها، وأنتَ تستطيعُ ذلك.
ردَ حسان مُتعجباً: كيف؟!
قالَ عامر: علمتَنا أن الكثيرَ من الألعابِ يُمكنُ ممارستها على الكمبيوتر ومنها لعبةُ كرةِ القدمِ وإنك تستمتعُ بها في أوقاتِ فراغِكَ.
قال حسانُ: لكنني تمنيتُ أن ألعبَ في الملعبِ الحقيقي.
تابعَ عامرُ: نحنُ فريقُ الصفِ الخامسِ نقابِلُ فِرقاً من مدرستِنا ومن مدارسَ أخرى، نفوزُ أحياناً ونخسرُ أحياناً ولكن ليس لدينا مدربٌ. ما رأيكَ أن تضعَ لنا خططَ اللعبِ من خلال الكمبيوتر وتتابعنا ونحن ننفذُ الخطةَ في الملعبِ فتكون مدربَنا؟
هتفَ الأصدقاءُ الثلاثة الآخرون: مدربُنا حسان... مدربُنا حسان... سنفوزُ في مبارياتنا القادمة. ردَّ حسانُ مُبتسِماً: أنا موافق.
أخذَ عامرُ وأصدقاؤه يقابلونَ حسان في موعدٍ محددٍ، يتحدثون عن الكمبيوتر، عن خططِ لعبِ مبارياتِ كرةِ القدمِ، عن طبيعةِ القريةِ الساحرةِ، عن العلم، عن المستقبلِ، ويرسمون لوحاتٍ جميلةً. أصبحَ حسانُ يكرهُ الوحدةَ وابتسامته حاضرة على وجههِ دائماً، وحضرَ مبارياتٍ بكرةِ القدمِ بين فريقه وفريق الصف السادس وقد حققَ عامرُ وأصدقاؤه الفوزَ في أغلبها ومع انتهاء كل مباراةٍ يسرعون نحوَ مدربهم ليفرحوا سوياً بالفوز. ومضت أيامٌ وأسابيع وانتهى العامُ الدراسي وأقبلَ الصيفُ، وصداقة الأطفالِ تترعرع مثلهم، ومارسُوا الكثيرَ من هواياتِهم الساحرةَ، ولعبوا وتبادلوا القصصَ الطريفة، وزارَ حسانُ بيوتَ أصدقائِهِ الذين أصبحَ لدى كل منهم جهازُ كمبيوتر يجيدُ استخدامَهُ بفضل حسان وتوطدت صداقات أخرى بين أسرةِ حسان والكثير من أهلِ القريةِ الطيبين.
حدثني أشرفُ عن سعادته الكبيرة بحياةِ ولدهِ حسان الجديدة وقالَ: ما كنتُ أتوقعُ أن يعودَ ولدي إلى الناسِ كما أراهُ الآن. ما قدمتموهُ لـه ولنا رائع، أصبحَ يُحسُ بحاجةِ المجتمعِ لـه.
فأجبتهُ: حسانُ طفلٌ ذكيٌ ومجتهدٌ وقويٌ.
بعدَ أيامٍ أخبرَ أبو حسان زوجتهُ وولده أن الإدارةَ قررت نقله إلى المدينةِ، فقد تمَّ ترفيعهُ في العمل. بدا الحزنُ على وجهيهما، ولم يكن ذلك مفاجئاً، وعندها ابتسم وقالَ: لقد عرفنا السعادةَ في هذه القريةِ الطيبة، لهذا سنبقى هنا، وسأعتذرُ عن تنفيذِ القرار.
حين سمعتُ بقرار نقل أشرف والد حسان زرتهُ وقلتُ لـه: بكل تأكيد نتمنى أن تبقوا هنا ونسعدَ بذلك، ولكن أحببتُ أن أبلغكَ إن أي مكانٍ تحلُون فيه يمكن أن تتحققَ فيه سعادةُ حسان، فلا تخشَ عليه أبداً.
ابتسمَ أشرفُ وقال: شكراً لك. قررنا البقاءَ هنا لأسبابٍ كثيرةٍ فالناس طيبون، والعادات والتقاليد رائعةٌ، وجمالُ القريةِ ساحرٌ وخلاب، وهنا أمارسُ العملَ الذي أحبه وهو التعامل مع الأرضِ والزراعةِ.
مع افتتاحِ العامِ الدراسي فوجئَ أشرفُ وزوجته بابنهما حسان يرجوهما أن يُسجلاه في مدرسةِ القريةِ، فهو يُريد أن يكونَ تلميذاً في الصفِ مثل رفاقه، فوافقا. وخلالَ مدةٍ قصيرةٍ استطاعَ حسانُ أن يكونَ تلميذاً متفوقاً في الصفِ السادس.
زينتِ السعادةُ وجوهَ أفرادِ أسرةِ أشرف، وبدأ الوالدان يفكران في مستقبلٍ مشرق وحياة جديدة لولدهما المتفوق المحبوب حسان.